Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من إيران إلى مكة: حين يصبح الحج دبلوماسيا

مثّل هذا الموسم اختباراً حقيقياً لطهران بعد أعوام سابقة شهدت اضطرابات وخطابات متوترة

الحجاج يؤدون مناسك الحج في مكة (أ ف ب)

ملخص

يمكن قراءة تجربة الحج لهذا العام 2025 كبوابة محتملة نحو مقاربات أوسع بين السعودية وإيران، لا تقتصر على الجانب الديني أو الموسمي.

غياب الأزمة هو الرسالة، هذه هي الخلاصة الأكثر وضوحاً في موسم حج هذا العام، ليس لأن الحجاج الإيرانيين وصلوا مكة، بل لأنهم مروا من دون أن يتحول المشهد إلى ملف إعلامي أو أزمة موسمية، وإذا كانت الأعوام السابقة قد شهدت اضطرابات وخطابات متوترة، فإن هذا الموسم مثّل اختباراً حقيقياً لمرحلة ما بعد الاتفاق الدبلوماسي.

الصمت هذه المرة لم يكن صدفة ولا حياداً، بل إشارة مقصودة إلى أن المسار الحالي بين الرياض وطهران يدار بمنطق مختلف، ضبط الإيقاع بدلاً من رفع الصوت، وتفعيل القنوات الهادئة بدلاً من التصعيد العلني، فقبل انطلاق موسم حج هذا العام وجه المستشار الإعلامي لوزير الخارجية الإيراني، محمد رنجبران، تحذيراً داخلياً لافتاً حول خطورة الخطاب المتشنج والمسيء الذي قد يصدر من بعض الأفراد، مشدداً على ضرورة احترام البلد المضيف وتجنب تكرار ما حدث عقب أزمة السفارة السعودية قبل نحو عقد، ولم يكن هذا التصريح مجرد موقف عابر بل عبّر عن نضج سياسي بدأ يتشكل داخل بعض دوائر القرار في طهران، ويقوم على إدراك فداحة وعدم جدوى التصعيد غير المنضبط، وضرورة الحفاظ على المسار التصالحي مع السعودية، وهذا التحول في الخطاب يشير إلى تحرك عملي ومراجعة للغة الخطاب الإيراني تجاه السعودية، يقوم على التمييز بين الرأي الفردي والموقف الرسمي ومحاولة تقديم إيران كدولة مسؤولة تلتزم بأصول الضيافة، حتى عندما تكون ضيفاً ربما ثقيل الظل سياسياً.

وفي جوهر هذه الرسالة اعتراف ضمني بأن الهجوم الرمزي على السعودية لم يعد ينتج فائدة بل يرتد على طهران بكلفة سياسية وشعبية، وفي قلب هذا التحول تقف إدارة ملف الحج كدليل ملموس على قدرة الطرفين على التفاهم خارج الضغط الإعلامي وبعيداً من المفاهيم الخلافية والتقليدية السابقة، فقد تمكن ما يقارب 87 ألف حاج إيراني من الوصول إلى الأراضي السعودية عبر رحلات منظمة في مناخ إداري سلس وإجراءات نسقت بعناية بين الأجهزة المعنية، لكن الأهم ألا أحد من الطرفين سعى إلى توظيف هذه الرحلة لأغراض سياسية أو مذهبية، مما يشير إلى نوع من التفاهم العملي ولو من دون إعلان رسمي.

هذا الشكل من التفاهم لا يقوم على اتفاق معلن بل على إدراك متبادل بأن استمرار التصعيد يكلف أكثر مما يمنح، وأن بعض الملفات، وأبرزها ملف الحج، يتطلب فصلاً زمنياً وموضوعياً عن باقي الخلافات، ومن هنا بات واضحاً أن الحوار السعودي - الإيراني يتقدم بخطوات محسوبة تبنى على تحركات جزئية لكنها ذات أثر تراكمي، فحين تدار حشود بهذا الحجم من دون تسجيل صدامات تذكر فإن هذا يعكس عملاً تنسيقياً حقيقياً لم يعد مرهوناً بالخطاب العلني، ومن هذه النقطة بالذات يمكن قراءة تجربة حج هذا العام 2025 كبوابة محتملة نحو مقاربات أوسع لا تقتصر على الجانب الديني أو الموسمي، فحين تنجح القنوات الإدارية والدبلوماسية في إنتاج توافق حول ملف شديد الحساسية تاريخياً فإن هذا يفتح الباب أمام إعادة التفكير في ملفات أخرى ظلت أسيرة التأجيل أو التوتر، مثل التبادل الثقافي وتنقل الأفراد وتطبيع الحضور الاجتماعي بين الشعبين، بل إن السماح بقدر محسوب من تنقل الأفراد، سواء لأداء العمرة أو حضور فعاليات ثقافية وفكرية، قد يشكل جسوراً ناعمة تسبق أي اتفاق سياسي، فحين تمنح الفيزا بناء على اعتبارات مهنية أو علمية أو بحثية، لا طائفية أو أمنية، يصبح من الممكن تخيل علاقة أكثر مرونة بين البلدين يتراجع فيها منسوب الريبة وتفتح فيها نوافذ المعرفة بدلاً من التوجس.

لقد تجنب الطرفان لغة الاستعراض وابتعدا من استخدام رمزية الحجاج كأداة للضغط أو التذكير بالخلافات، وهذا في ذاته تقدم مهم لأن الحجيج طالما شكلوا ورقة توتر سريعة الاشتعال في لحظات الغياب الدبلوماسي، واليوم نشهد تحولاً نحو منطق أكثر عملية يعزل ما يمكن تنظيمه عن مسارات الخلاف الأخرى، ويبقي على الحد الأدنى من التنسيق كأداة لتقليل التوترات من دون ادعاء حل الخلافات الكبرى.

وربما لا يحمل هذا التنسيق دلالة على تقارب سياسي شامل لكنه يكشف عن قدرة البيروقراطيات على إيجاد أرضية تفاهم، حتى عندما تبقى القيادات في مواقع متباعدة سياسياً، والقدرة على عبور هذا الموسم من دون أزمات ليست فقط إنجازاً لوجستياً بل هي انعكاس لمستوى جديد من المصالح المتوقعة والتي بدأت تميز سلوك الطرفين في الملفات الحساسة، وبهذا المعنى يصبح الحج تجربة مؤسِسة، لا بوصفه شعيرة دينية فقط، بل كبنية تنظيمية يمكن البناء عليها لتطوير مفهوم الإدارة المشتركة للملفات المعقدة، وهذا المفهوم إذا اُختبر بنجاح في مواسم قادمة فقد يمهد لتحول نوعي في الملفات العالقة الأخرى، من التعليم إلى السياحة ومن الترجمة إلى اللقاءات العلمية.

وفي هذا السياق يشار إلى خطوة عملية مهمة شهدها هذا العام، وتمثلت في استئناف خطوط "طيران ناس" الرحلات المباشرة بين السعودية وإيران، وتسييره أكثر من 10 رحلات أسبوعياً لنقل الحجاج والمعتمرين، وهذا التحرك لا يعكس فقط مرونة التنسيق بل يشير إلى أن الجسور الجوية تعود لتلعب دوراً داعماً في تعزيز المسارات العملية للتفاهم، حتى في ظل ثبات الخلافات الإستراتيجية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتتجلى أهمية مرونة وانسيابية موسم الحج هنا بما يمثله من رمز ديني وحدث تنظيمي، كونه أحد أبرز الملفات التي طالما شكلت نقاط  خلاف بين الطرفين، وإذا نجحت القنوات الدبلوماسية في ضمان سلاسة هذا الملف الحساس فإن ذلك يمنح مؤشراً قوياً على قابلية تكرار هذا النمط من التنسيق في ملفات أخرى، ويؤكد دور الدبلوماسية في جعل الشعائر الدينية مساحة آمنة ومنظمة لا ساحة لتجاذبات السياسة، إذ إن هذا التغيير لا يعكس فقط تحولاً في التجاذبات والمناوشات الإعلامية، بل ينبئ بنقطة تحول في التفكير الإستراتيجي لطهران تقوم على إعادة ترتيب الأولويات وتخفيف العزلة واستعادة العلاقات مع دول الخليج، وفتح قنوات تنسيق هادئة في ملفات معقدة.

وبقراءة السياق الدبلوماسي لموسم حج هذا العام، فقد بدا واضحاً أن إيران لم تغير خطابها لأن ظروفها الداخلية تغيرت، بل لأنها باتت ترى بوضوح أن مشهد المنطقة لم يعد كما كان، فقد قرأت ما يجري بدقة، وأن موسم حج بلا شعارات وبلا صدام وبلا رسائل خفية هو اختبار للواقع الجديد، إذ لم يعد هناك متسع لخطاب الافتعال بل لاعتراف ضمني بتغير قواعد اللعبة، وما حدث هذا العام في موسم الحج بالنسبة إلى طهران لا يمكن قراءته فقط ضمن إطار التنظيم والانسيابية، بل بوصفه مؤشراً سياسياً على واقع دبلوماسي آخذ في التبدل، فقد تعاملت مع الحدث بصيغة جديدة أكثر انضباطاً وأقل افتعالاً وتنم عن إعادة تقدير دقيقة لمكانة الحج في سياق المصالحات الجارية.

وبصفتي متابعة لهذه التحولات من قرب، فأرى أن الحج شكّل هذا العام اختباراً هادئاً لمسافة الثقة التي باتت اختباراً لن يقف عند حد الشعائر، بل ستتضح آثاره في ملفات أكبر تتطلب العقلية نفسها، عقلية تحسن إدارة الخلاف لا تضخيمه، وتستثمر في تفكيك التعقيد لا تدويره، وقد لا يكون هذا التحول صاخباً لكنه بالغ الدلالة، مما يجعل من هذا الحج سياسياً لحظة مفصلية بصمت محسوب.

المزيد من آراء